كانت الأجراس تقرع بهدوء، في مكان ما بعيد. استيقظتُ مبكرًا، كما أفعل كل عام في عيد الفصح. ليس لأن أحدًا أرغمني، بل لأن شيئًا في أعماقي كان يدعوني لذلك. في صمت الصباح، شعرتُ بعبق القرون ينساب من حولي. رأيتُ صحراء مصر، والأديرة التي اختبأت كالأصداف في الرمال. وشعرتُ بيد أمي الدافئة، وهي تروي لي قصة القيامة حين كنتُ طفلًا. لم تكن حكاية خرافية. لم تكن مجرد رمزية. بل كانت حدثًا غيّر مجرى حياة البشرية.
المسيح قام من بين الأموات و وطئ الموت بالموت و وهب الحياة للذين في القبور
لكثير من الناس في هولندا، قد يبدو هذا صعب الفهم. وهذا ليس غريبًا. ففي بلدٍ غالبًا ما يُحصر فيه الإيمان داخل المجال الخاص، أصبح عيد الفصح مناسبةً للبحث عن البيض، أو تناول الإفطار العائلي، أو زيارة المتاجر. لكن بالنسبة لي – وللملايين من المسيحيين حول العالم – فإن الفصح هو قلب الإيمان. إنه عيد المستحيل الذي يحدث رغم كل شيء. عيد النور الذي لا يُهزَم أمام الظلام.
أنا قبطي مسيحي أرثوذكسي. وُلدتُ في الشرق الأوسط، تلك المنطقة التي غالبًا ما ترتبط في أذهان الناس بالصراعات، ونادرًا ما تُذكر كمهدٍ للتقاليد المسيحية. مع أن كنيستنا هي من أقدم كنائس العالم. إيماننا ضارب في جذور زمن الرسل. ولا زلنا نصلي حتى اليوم باللغة القبطية، المنحدرة من اللغة المصرية القديمة. هو إيمانٌ عانى من الاضطهاد، لكنه لم يتوقف يومًا عن التسبيح والترتيل. خصوصًا في عيد الفصح.
واليوم أعيش هنا، في هولندا، منذ عشرات السنين. بلدٌ يقدّر الحرية، ويعتز بها – وهذا أمر جميل. لكنه بلدٌ يجهل فيه كثيرون لماذا نحصل على يوم عطلة في “الاثنين الثاني للفصح”. بل إن بعضهم لا يعرف أصلًا أن الفصح مرتبط بقيامة يسوع المسيح. وهذا يؤلمني. ليس لأني أريد من الجميع أن يصبحوا مسيحيين – أبدًا. بل لأننا نعيش في مجتمع نوجد فيه جنبًا إلى جنب، دون أن نعرف شيئًا عن بعضنا البعض. نشارك نفس المكان، ونفس التقويم، لكننا لا نتشارك نفس القصص.
ومع ذلك، ما زلت أؤمن بالجسور. ولهذا أكتب. لأن الفصح بالنسبة لي ليس مجرد ذكرى من زمن بعيد أو مكان بعيد. بل هو قصة تريد أن تُروى من جديد، هنا، والآن. قصة أمل. عن النهوض من كل ما يبدو ساكنا مشلولا أو ميّتًا. عن الإيمان بأن التغيير ممكن. للإنسان، وللمجتمع والعالم.
فلنكن صادقين: زماننا هذا يصرخ من أجل قيامة. من أجل بداية جديدة. وسط الانقسام، والشك، والصراعات, والحروب، والاحتراق النفسي، الإكتئاب والوحدة. ولهذا فإن هذا العيد بالذات هو عيدٌ معاصر بامتياز. المسيح قام من بين الأموات. ومعه قام الإيمان بأن المحبة أقوى من الموت، وأن الغفران ممكن، وأنه لا يحق لأحد أن يضع النقطة الأخيرة في حياة غيره.
سواء كنت تؤمن أم لا، أدعوك أن تتوقف لحظة أمام هذه القصة. قصة الحب العظيم. ليس لأني أريد إقناعك. بل لأنها ربما تمسك بك، أو تثير دهشتك، أو حتى تعزيك. فمن يدري؟ ربما تكون أنت أيضًا في انتظار شيء ما. نقطة تحوّل. شعاع نور. صوت يقول: “قم”.
وهذا هو بالضبط معنى عيد القيامة.
عاطف حمدي
ماجستير في العلوم السياسية وقبطي مسيحي