المقدمة: الرائد غير المرئي
إنه عام 2009. أقف على منصة في واشنطن العاصمة، محاطًا بصانعي السياسات، والباحثين، وخبراء السياسات الأمنية. ينصت الحاضرون باهتمام بينما أقدم رؤيتي حول التطرف والراديكالية ودراستي البحثية الفريدة: مشروع السردية البديلة (Counter-Narrative).
هنا، على بعد آلاف الكيلومترات من هولندا، يتم التعامل معي باحترام، يتم تقدير خبرتي، وأُعترف بي كمفكر وكباحث.
لكن في هولندا، حيث أعيش منذ 35 عامًا، الواقع مختلف تمامًا. هنا، يتم غلق الأبواب, يتم تجاهل معرفتي، ينظر إليّ بريبة، وتتم معاملتي ليس كباحث محترف، بل كـ”الآخر”.”
قصتي ليست فريدة من نوعها، بل هي واحدة من بين العديد من قصص الهولنديين ذوي الخلفيات المهاجرة الذين يتم تجاهلهم، واستغلالهم، وحتى سرقة إسهاماتهم الفكرية. هذا المقال هو شهادتي.
ميلاد السردية البديلة
بعد هجمات 11 سبتمبر، وتفجيرات مدريد ولندن، واغتيال ثيو فان جوخ في هولندا، سعت الحكومات للبحث عن حلول. كان الرد الأول قمعيًا: قوانين أكثر صرامة، مراقبة مكثفة، وتركيز على الأمن القومي. لاحقًا، انتقلوا إلى نهج “ناعم” – الاستثمار في المجتمعات، والتماسك الاجتماعي، والتعليم. لكن حتى هذه الاستراتيجية كانت غير مكتملة والأحري نقول ولدت مشوهة.
رأيت الفجوة التي لم يلتفت إليها أحد. بينما كان المجتمع يصوّر المتطرفين كأفراد معزولين، كنت أدرك أنهم جزء من مجتمعات أوسع – مجتمعات موازية تشعر بالتهميش والإقصاء والإحباط.
سعيت لإثبات أن الديمقراطية توفر ما يكفي من الفرص للنضال من أجل الحقوق دون اللجوء إلى التطرف والعنف.
كان مشروعي للسردية البديلة مبتكرًا ومتعدد الأبعاد وقائمًا على المعرفة. لم يكن مبنيًا على شعارات جوفاء أو مجاملات سياسية، بل على تحليلات معمقة للأيديولوجيات المتطرفة العنيفة، واستراتيجيات مختلفة لتطويقها وتفكيكها من الداخل. جمعت مواد بحثية من العالم العربي، استشرت خبراء، وطورت منهجية تكشف التطرف وتتصدى له.
ومع ذلك، بينما كنت أُستقبل في الولايات المتحدة كموهبة قيادية صاعدة، كنت لا أُؤخذ بجدية في هولندا.
عالمان، حقيقتان مختلفتان
في الولايات المتحدة، فُتحت لي الأبواب. التقيت بصانعي السياسات، وباحثين من مراكز أبحاث مرموقة، وأساتذة كانت كتبهم جزءًا من مقررات دراستي الجامعية. رأوا إمكانياتي، قدّروا خبرتي، وعرّفوني على جهات مؤثرة. إن لم يتمكنوا من مساعدتي مباشرة، كانوا يوجهونني إلى شخص يستطيع ذلك.
أما في هولندا، فكان الأمر مختلفًا تمامًا. لم أُعامل كخبير، بل كغريب. عندما كنت أتحدث، كان يتم قطع كلامي بتعليقات سطحية. في الدوائر المهنية، كنت أشعر بنظرات الريبة والأسئلة غير المعلنة. لم يُنظر إلى خلفيتي متعددة الثقافات أو إتقاني للغات أو تدريبي الأكاديمي الهولندي والمصري أيضا كقيمة مضافة، بل كشيء غير مألوف
لكن اللحظة الأكثر ألمًا جاءت عندما بدأ ممثلي جهات حكومية مختلفة فجأة في إبداء اهتمامهم بأبحاثي. لسنوات، كان مشروعي يُهمل، بل حتى يُستهزأ به. لكن الآن، بدأ المسؤولون يطرقون بابي – ليس للاعتراف بي أو دعمي، بل لمصادرة عملي دون إذن أو تقدير
السرقة والخيانة
عرضوا عليّ 50 يومًا فقط من البحث “لتحضير” المادة التي عملت عليها لسنوات. قدمت نتائجي في مؤتمر حضره شركاء دوليون للحكومة الهولندية، مع وعود بأنني سأكون جزءًا من المشاريع المستقبلية.
لكن هذه الوعود لم تتحقق أبدًا:
بعد سنوات، وخلال لقاء غير متوقع في القطار، اكتشفت ما حدث فعليًا لبحثي
تم إعادة تنسيق عملي الفكري، وصياغته بشكل جديد، ثم تقديمه كهدية لوزير عربي.
لم يُذكر اسمي. لم يكن هناك أي اعتراف، ولا شكر، ولا مشاركة في أي من المخرجات.
وفي الوقت الذي أصبح بحثي فيه أحد الأولويات الكبرى في المنتديات الأمنية العالمية، مثل “المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب” في نيويورك, اضطررت أنا -الشخص الذي طور الفكرة- إلي البحث عن وظيفة جديدة.
ما الذي تخسره هولندا؟
هذه ليست قصتي وحدي، بل نمط متكرر. المجتمع الهولندي يفضل رؤية المهاجرين في وظائف هامشية – كعمال نظافة أو طهاة أو بائعي بطاطا مقلية –بدلاً من رؤيتهم كباحثين أو مستشارين أو مدراء أو قادة.
بدلاً من الاستفادة من الإمكانيات الهائلة للخبراء ثنائيي الثقافة، تقوم هولندا بإقصائهم وتهميشهم بشكل ممنهج.
الألم لا يأتي فقط من التهميش، بل من النفاق. تدعي هولندا أنها تدعم التنوع، وتبحث عن وجهات نظر جديدة، وتشجع الابتكار والتفكير خارج الصندوق. لكن عندما يأتي شخص من خارج الدوائر التقليدية بحل مبتكر، تتم سرقة عمله دون أي تقدير.
أنا لست عبئًا على المجتمع. أنا مواطن هولندي مارست مهنتي بنزاهة وتفانٍ. أكملت دراستي في جامعة هولندية، أتحدث اللغة بطلاقة، وأنا منخرط اجتماعيًا. ومع ذلك، أجد نفسي موضع شك وتجاهل وإقصاء. البعض يقول إسلاموفوبيا
ولكن المفارقة الساخرة هي أنني لست حتى مسلمًا. لكن بغض النظر عن هويتي، يبدو أن إسمي ولون بشرتي هما ما يحددان كيفية معاملتي.
رسالة إلى هولندا
يجب أن يتوقف هذا الأمر..
هناك الكثير من المواهب المهدورة. هناك الكثير من الفرص الضائعة.
لا يمكن لمجتمع أن يهمّش أفضل العقول لديه دون أن يعاني من العواقب.
لا يتم مكافحة التطرف فقط من خلال القوانين أو الاستثمارات الاجتماعية المسيسة، بل أيضًا من خلال الإدماج الحقيقي، من خلال الاعتراف بالمواهب المتنوعة والاستفادة منها. من خلال إعطاء أشخاص مثلي – والعديد غيري – المساحة للمساهمة.
هولندا، حان الوقت للنظر في المرآة
الخاتمة
لقد شكلتني رحلتي، لكنها أيضًا خيبت آمالي. بينما كنت مكرما مقدرا في الولايات المتحدة، تم تهميشي في هولندا. بينما كان يمكن أن تساهم أبحاثي في تعزيز المجتمع الهولندي، تم الإستيلاء عليها وإستخدامها دون إذن.
لكنني أرفض أن أبقى صامتًا. قصتي هي سلاحي. هذا المقال هو سلاح مضاد للسردية السائدة.
ربما هناك من يقرأ هذا المقال ويجد نفسه في نفس المعاناة. ربما هناك من يستطيع إحداث تغيير حقيقي.
وربما – فقط ربما – ستدرك هولندا يومًا ما مقدار المواهب التي قامت بإقصائها
عاطف حمدي
خبير في السياسات العامة والعنف السياسي والعلاقات الدولية