قد يتفاءل البعض ، ونحن معهم ، بأحلام وخطط من نوع “الشام الجديد” وغيره ، وبقمم زاهية تعقد فى بغداد الرشيد ، وبرغبات استرداد العراق لعروبته ، وانفتاحه المتكافئ على محيطه الإقليمى ، وبأمل اكتساب استقلال أفضل لحركته العامة ، وكل هذا كلام معقول ، وجهد فى محله ، وقد يثمرخيرا عظيما ، ربما بشرط أن يغادر محله المختار على الورق الذى يجف حبره ، فليس بالأمنيات وحدها يصنع التاريخ ، واستقرار العراق هو المفتاح المطلوب أولا ، وما من سبيل لاستقراره ، ولا لرد هيبة العراق العظيم الجريح ، إلا أن تبنى فيه دولة تستحق الصفة ، دولة قادرة لا دويلات متداخلة الخيوط كشبكة العنكبوت ، دولة بجيش واحد ، لا بعشرات الجيوش والحشود و”البشمركات” ، وبعقيدة وطنية قائمة على التجنيد الإلزامى العام ، وبهيئة شرطة واحدة ، لا بعشرات الأجهزة والميليشيات ، وبمواطنة واحدة متساوية الحقوق بغير تمييز طائفى ولا عرقى ولا جغرافى ، وبدستور يستعيد وحدة البلد ووجهه العربى الناصع ، وليس بدستور الطوائف وفيدرالية التفكيك ، الذى وضعه “بول بريمر” حاكم العراق بعد الاحتلال الأمريكى ، وانتهى فى الممارسة إلى “لبننة” العراق ، وفرض رئيس “كردى” فى العادة على عموم العراق العربى ، فوق رئيس “كردى” آخر لكردستان العراق المنفصلة عمليا ، ورئيس وزراء عراقى عربى ، يشترط عمليا أن يكون شيعيا ، وترك رئاسة البرلمان لذوى القربى من المتهافتين السنة ، فهكذا شاءت أمريكا وتشاء إيران ، بينما القسمة “الضيزى” كلها لا تؤدى إلى منتج عراقى بامتياز ، ربما لأنها تفتقر إلى نقطة التوازن بين التنوع العراقى ووحدة الدولة ، التى قد لا يكفلها فيما نظن ، سوى التحول إلى نظام رئاسى ، ينتخب فيه الرئيس مباشرة من الشعب ، وبسلطة ناظمة لمؤسسات الدولة ، بينما تختار الحكومة من قبل الأغلبية البرلمانية ، مع تحريم وتجريم اقتصار عضوية أى حزب على طائفة أو عرقية بعينها ، وبالذات بعد التجربة المريرة لأحزاب الطوائف المتخفية برداء الدين ، وبتحايل هذه الأحزاب وخداعها للرأى العام بعد انكشاف فسادها المرعب ، ولصق أسماء “مدنية” و”عراقية جامعة” على واجهاتها الخارجية ، وقد لا تكون هذه الخطوات ممكنة بجرة قلم طبعا ، وقد سالت الدماء غزيرة على طريق تحرير العراق واستعادته للعراقيين ، ففوق آلام الحياة اليومية المنهكة لغالبية العراقيين ، يحس العراقى الوطنى أنه الغريب فى بلده ، وأنه المواطن بلا وطن ، وربما يفسر الشعور صيحة طلائع الانتفاضة العراقية الشعبية الممتدة على موجات منذ انطلاقتها العفية فى 25 أكتوبر 2019 ، ومن قلب جغرافيا التحدى للهيمنة الطائفية الملوثة ، من بغداد إلى البصرة ، كانت الصيحة ولا تزال “نريد وطنا” ، وأن أول الطريق للحرية هو كنس الطائفية وأحزابها المدعية للتدين ، بينما اللحى والعمائم غارقة فى وحل الفساد والنهب والعمالة للأجنبى ، كانت الانتفاضة صحوة للروح الحبيسة ، ورغبة عارمة فى اكتساب الوطنية العراقية الجامعة ، ودفعت طلائع الانتفاضة الثمن مضاعفا ، بقتل المتظاهرين ، والاغتيالات الغامضة المتصلة للقيادات الشعبية الأكثر جسارة ، ومن دون أن يقتص أحد للدماء الزكية ، فقد وعد الكاظمى حين جاء بالقصاص ومطاردة القتلة ، ومن غير إنجاز ملموس حتى تاريخه ، فكلما شرع فى معركة تراجع عنها ، وكلما شد خيطا من المتاهة تاه فيها ، وقد أمل البعض فيه ، ثم شحب الرجاء وتوارى ، وتواضعت حركة الرجل ونزلت من سقف الوعد بالتغيير إلى وهدة وعادة التسيير ، والضياع فى الحوارات الأخطبوطية إياها ، من الحوار “الاستراتيجى” مع طهران إلى الحوار “الاستراتيجى” مع واشنطن ، فأعوان إيران يتهمونه بالعمالة لأمريكا ، وأعوان أمريكا يتهمونه بالخوف من ميليشيات الولاء الإيرانى ، وهو نفسه يخشى على حياته ، وربما تنتهى قصته إلى خيبة الأمل الراكبة للجمل ، فديناصورات الطوائف تستعد للقفز على المشهد الأمامى مجددا ، وهو ما قد يؤجل حلم استرداد العراق ، وعودة العراق للعراقيين أولا ، وللأمة التى تقاسى غيبته .
