الانقلاب الجديد في السودان، الذي وقع يوم امس 25-10-2021 كان متوقعا منذ البداية فما حصل بعد التحشيد الملاييني ضد نظام البشير الذي كادت الجماهير تكتسحه بقوتها الضاربة، كان عملا مدبرا لاحتواء الانتفاضة السودانية وتحويل مسارها للعودة الى نفس البداية وهي نظام ديكتاتوري فاسد يواصل تنفيذ خطة تقسيم السودان عبر عدم السماح بالوصول لحل يوقف الصراع وينهي معاناة الشعب السوداني ولكن تحت غطاء الانتفاضة ذاتها وباسمها وببعض قواها، رغم انه جزء من المخطط العام لتقسيم الاقطار العربية ! ان الوصول الى فهم صحيح يوجب اخذ ما يلي بنظر الاعتبار:
1-لم يقع الانقلاب الا بعد ان تبلورت ظاهرة جديدة في السودان وهي ان العسكر المسيطرين والقوى السياسية الداعمة للتطبيع والقطرية في السودان وبعد ان فصلوا جنوبه وعززوا مواقع العنصرية اريد لهم ان يجروا الاخرين لمكان وقوفهم الستراتيجي فوق ارض التطبيع مع اسرائيل الغربية وارض التبعية لامريكا تحت اغطية شتى ، فلا امكانية لجر السودان لمعركة التطبيع وهي عنوان مرحلة ما بعد تدمير العراق وسوريا بشكل خاص وتحييد الدور المصري في الصراع العربي الصهيوني وتوفير بيئة تبرير التطبيع لدول في الخليج العربي تحت غطاء (الابراهيمية) وهو اسم يوفر الغطاء الديني الشكلي له ،الا بأكمال توريط القوى السودانية في عملية التطبيع والمطبع حالما يتلوث يصبح عاجزا عن تنظيف نفسه! الدرس الاول للانقلاب السوداني الاخير هو جر الجميع للتطبيع عبر حكومة تبدو ممثلة للانتفاضة لكنها تخفي تحتها مستنقع التطبيع .
2-وهنا نرى انفسنا امام سؤال لايمكن تجاهله ونحن نعيش ازمة غير مسبوقة: هل التطبيع من بين خيارات البعث؟ كلا فالبعث كان واضحا منذ تأسيسه فقد اكد على ان الكفاح الشعبي المسلح وليس الحكومات هو الذي يحرر فلسطين واعتبر قضية فلسطين قضية العرب المركزية وفي وقتها لم تكن هناك اي قضية بمستوى خطورة القضية الفلسطينية كما هو الحال الان حيث اصبحت قضايا العراق وسوريا واليمن وليبيا من بين قضايا العرب المركزية الى جانب بقاء فلسطين قضية مركزية للعرب.التطبيع ليس خيارا بعثيا ولهذا كان الحزب بعد هزيمة حزيران 1967 اول من تبني موقف رفض ما يسمي (الحل السلمي) واسماه الحزب الحل الاستسلامي وهي تسمية صحيحة، وجاءت قمة الخرطوم في ذلك العام لتثبت اللاءات الثلاثه وهي: لاصلح و لا تفاوض ولا اعتراف بالعدو الصهيوني اي بأسرائيل الغربية.
وحتى حينما زج العراق في وضع خطير خانق ومخنوق عندما شنت الحرب عليه في عام 1991 من قبل 40 دوله ودمرت الكثير من قواه الاقتصادية والعسكرية واستشهد عشرات الالاف من العراقيين وحوصر حصارا لم يسبق له مثيل في العصر الحديث فانه لم يتراجع عن موقفه القومي القائم على رفض التطبيع . ورفضت قيادة البعث مشاركة الحزب في فلسطين في حكومة مطبعة بعد اتفاقية اوسلو وبقي هذا الموقف حتى هذه اللحظة في تاكيد واضح على رفض الحزب للتطبيع كخيار اضطراري فحتى الاضطرار غير وارد في قواميس الاحزاب الثورية التي تحافظ على تاريخها ونقاوته استراتيجيتها القومية.اما فكرة ان المشاركة في حكومة مطبعة لا يعني دعم التطبيع فهو عبارة عن تبرير يسقط نفسه لانه يتناقض مع الموقف المبدأي والعقائدي للحزب الذي لم يشارك منذ خمسينات القرن الماضي في اي حكومة تعرضت لخلافات داخلها حول بعض القضايا الجوهرية مثلما حدث في عامي 1958-1959 في العراق حينما انسحب ممثل الحزب في الحكومة بعد الاختلاف حول الموقف من الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة.
3-ولا بد هنا من التاكيد والتذكير في نفس الوقت بان اي موقف مستجد يخالف الستراتيجية القومية لا يمكن تبنيه الا عبر مؤتمر قومي تأسيسي منتخب من القاعدة للقمة وبدون ذلك فان تبنى اي موقف سوف يفتقر الى الشرعية الحزبية والشرعية الوطنية والقومية في ان واحد.اما حينما يتعلق الموقف بالتناقض مع عقيدة الحزب فانه لا مؤتمر قومي ولا مؤتمر تأسيسي ولا اعلى قيادة تملك صلاحية تغيير العقيدة، فعقيدة الحزب حددتها الفقرات الاساسية من دستوره وفي ختامه تؤكد الفقرة الاخيرة ان المواد الاساسية من الدستور لا يمكن تغييرها حتى من قبل مؤتمر قومي منتخب. والسبب في ذلك هو ان عقيدة الحزب تشكل هويته المميزة وهي اساس العقد الاجتماعي الذي اتفق عليه بين الحزب وبين من انتموا اليه فهم لم ينتموا الا على اساس فهمهم للعقيدة وقت الانتماء واذا تغيرت العقيدة فان اصل الانتماء يزول ولذلك ليس بالامكان تغيير عقيدة الحزب من قبل اي جهة في الحزب الا اذا كان المقصود تغيير هويته وهذه خطوة تنسف وجود الحزب وتاريخه وماضيه وتبدأ مسيرة حزب جديد اخر مختلف.
4-هل ان لبرلة – مشتقة من ليبرالية- الحزب والتخلي عن المفهوم الديمقراطي الخاص له الممثل بالديمقراطية الشعبية والقائم على مراعاة الخصائص القومية هو انحراف عن العقيدة؟ نعم انه انحراف تام وبيّن ولا يمكن اغفاله، وهو يفضي حتما لهجر الحزب كما تأسس وكما انتمنيا اليه ،فالديمقراطية الشعبية تجسيد لواقع مجتمع عالمثالثي لم يصل بعد لحالة دولة الدستور والقانون الراسخة التقاليد فتختفي ظاهرة (القائد التاريخي) وتحل محلها ظاهرة الرئيس المدير التنفيذي، كما هو حال امريكا والاتحاد الاوربي، اقطارنا مازالت في مرحلة تكوين دولة المؤسسات رغم انها بدات مسيرتها قبل عشرات الدول التي وصلت لمرحلة دولة المؤسسات والسبب الاساس لتخلفنا في هذا المجال هو التأثيرات الطاغية من الخارج ومنع ترك تطورنا يأخذ مجراه الطبيعي وفرض انماط من التحولات المصطنعة بما في ذلك فرض انظمة فاسدة ومستبدة وتنقصها الكفاءة والارادة الوطنية. نحن مازلنا في طور النضال من اجل دولة المؤسسات الدستورية وهي وحدها التي تفضي لتحول الرئيس الى مدير تنفيذي وليس قائدا يصنع القرارات التاريخية، فالديمقراطية المناسبة لنا هي الديمقراطية الشعبية والقريبة من تراثنا خصوصا مبدأ الشورى، مع التأكيد الحازم على تدخل الارادة الثورية في التسريع بتوفير البيئة المناسبة لدولة المؤسسات، ان لبرلة النظام السياسي دواء قاتل لنا يجرنا رغما عنا الى الفوضى ولهذا لم تكن صدفة ان امريكا بعد غزو العراق اختارت لنا اكثر انواع النظم تناقضا مع واقعنا وهي الليبرالية لتكون وسيلة اساسية في تهديم الدولة والمجتمع فالمسدس بيد طفل سيقتل والده به دون ان يعي فعلته .
5-هل التراجع عن تحرير فلسطين بالقوة وتبني الحل السلمي انحراف جوهري؟ نعم انه ردة كاملة لان التراجع عن هدف تحرير فلسطين ردة على هوية البعث خصوصا بالنسبة لفرع الحزب في العراق حيث انه تاريخيا تميز عن سائر الاقطار العربية بصلة خاصة بفلسطين منذ نبوخذنصر وحتى صدام حسين مرورا بصلاح الدين الايوبي، وكان العراق ينفرد باعتبار قضية فلسطين قضيته الوطنية وليس القومية فقط كلما تعرضت للغزوات الصهيونية. والتراجع عن تحرير فلسطين سيكون موقفا ساذجا عندما يكون مباشرا الامر الذي يفرض اتباع تكتيك التدرج في التطبيع على ان يبدأ بتصفية العقبات البشرية اي الكادر والقادة المتمسكين بالعقيدة وجزئها العضوي: تحرير فلسطين، وتبني اسلوب وقوعي تحت تسمية الواقعية وحتميات الامر الواقع ! ولذلك فلا مفر حينما نرى تصفيات غير مبررة ولا سبب لها نظاميا الا ان نرى ما سوف يتبعها من خطوات بعد ان تتم، وهنا نرى قرون الشيطان تظهر من وراء (الحاجز السري) ودائما هي اول مانراه ثم تبدأ الازمات الخانقة تترى لدرجة انها تحجب عنا القدرة على رؤية وجه الشيطان حتى عندما يكتمل ظهوره امامنا ! ولكننا نلمس تاثيراته في اثاره الواضحة ومنها القاء السلاح قبل انتهاء الحرب وهي تعني عمليا الاستسلام للعدو والتخلي عن المقاومة المسلحة رغم انها التوأم العضوي للعمل السياسي السلمي وسيدته بلا منازع ،والتخلي عن المقاومة المسلحة يتخذ شكل الاعلان المتكرر عن الايمان بالتحولات السلمية وتبادل السلطة عبر الانتخابات فقط وكأننا نعيش في دولة دستورية تقاضي الرئيس مثلما تقاضي الحارس!
ونذكّر هنا بان الحزب بقي طوال اخطر مرحلة في تاريخه وهي مرحله حرب عام 1991 وتواصلها بصيغة الحصار الخانق صامدا ولم يتراجع عن موقفه القومي من قضية فلسطين بل ان ما يشرف الحزب هو الموقف الذي ختم به حياته القائد الشهيد صدام حسين حينما هتف بتحرير فلسطين من البحر الى النهر قبل ثوان من استشهاده، وهذا امر لا يمكن لاي بعثي ان يتجاهله الا اذا اراد الانحراف عن عقيدة الحزب وستراتيجيته.
ويترتب على ذلك موقف واضح ولا سبيل للقفز من فوقه : يجب عدم الاشتراك في حكومة مطبعة مهما كانت التبريرات ويمكن ممارسه النضال خارجها دون التلوث بالاشتراك فيها، اما البقاء فيها بعد صدور انتقادات حادة فانه موقف يبعث على التساؤل المرير عن دوافعه الحقيقية ، بل المشكله الاكثر تعقيدا وغير المفهومه هي ان من اشترك فيها من البعثيين في مجلس السيادة والحكومة السودانية اعترف بانه سيقصى من الحكومة مع بقية الاطراف المدنية فيها ومع ذلك بقي فيها حتى حسم العسكريون صراع السلطة لصالحهم وابعد المدنيين منها وتبلورت الصورة وفيها المدنيون يتمسكون بالحكومة المطبعة والعسكر هم الذين يخرجونهم منها بالقوة! وتلك صوره بالغه السلبية وتشير الى حب للسلطة يغرق حب العقيدة والوطن ويخنقهما !
ماذ عن الموقف من امريكا؟ وكيف ظهر الانحراف عن موقف الحزب منها؟ يتبع.